2012م - 1444هـ القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها، ما من شيء يحتاجه البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً، عَلِمه مَنْ عَلِمه، وجهله من جهله.
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم وتابِعوهم تلاوة وحفظاً وفهماً وتدبراً وعملاً، وعلى ذلك سار سائر السلف، ومع ضعف الأمة في عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر عند غالب المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه ومراداته، وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك، "وقد أنزل الله القرآن وأمرنا بتدبره، وتكفل لنا بحفظه، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره".
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده، ففي ذلك أجر كبير، لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر، ومن ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى. ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح.
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم: "تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله". (نضرة النعيم، ص 909) وقيل في معناه: "هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة".
أولاً: منزلة التدبر في القرآن الكريم:
1- قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]. في هذه الآية بين الله تعالى أن الغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكرلا مجرد التلاوة على عظم أجرها. قال الحسن البصري: "والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل". (تفسير ابن كثير، 7/64، ط: طيبة)
2- قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ...} [النساء:82]. قال ابن كثير: "يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ...} (تفسير ابن كثير، 3/364، ط: طيبة)، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب.
3- قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة:121].
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: "والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله". (تفسير ابن كثير، 1/403) وقال الشوكاني: "يتلونه: يعملون بما فيه"
فتح القدير، 1/135) ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر.
4- قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78]. قال الشوكاني: "وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر"
فتح القدير، 1/104)، وقال ابن القيم: "ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني". (بدائع التفسير، 1/300)
5 - قال الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
قال ابن كثير: "وترك تدبره وتفهمه من هجرانه". (تفسير ابن كثير 6/108) وقال ابن القيم: "هجر القرآن أنواع... الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه".(بدائع التفسير 2/292)
ثانياً: ما ورد في السنة في مسألة التدبر:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده». (رواه مسلم، ح/2699). فالسكينة والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر. أما واقعنا فهو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها.
2- روى حذيفة رضي الله عنه: "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ". (رواه مسلم، ح /772) فهذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
3- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] . (رواه أحمد، ح /20365) فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية واحدة فقط في ليلة كاملة.
4- عن ابن مسعود قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن". (رواه الطبري في تفسيره، 1/80) فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم الصحابة القرآن: تلازم العلم والمعنى والعمل؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق والعمل به.
5- لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث». (رواه الدارمي والترمذي برقم 2870، وصححه ورواه أحمد وأبو داود بلفظ: لم يفقه) فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود بتلاوته لا مجرد التلاوة.
6- وفي الموطأ عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها، فأسقط آية فقال: « يا فلان! هل أسقطت في هذه السورة من شيء؟ قال: لا أدري، ثم سأل آخر واثنين وثلاثة كلهم يقول: لا أدري، حتى قال: ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما يدرون ما تلي منه مما ترك؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه».
ثالثاً: ما ورد عن السلف في مسألة التدبر:
1 - روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: "تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً". (نزهة الفضلاء، تهذيب سير أعلام النبلاء، 1/35/أ) وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن؛ فما بقي إلا أنه التدبر.
2- عن ابن عباس قال: "قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل عن الناس فقال: يا أمير المؤمنين! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، فقلت: والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة، قال: فزبرني عمر، ثم قال: مه! فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً؟ قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا: كلٌ يقول الحق عندي - ومتى يحتقوا يختصموا، ومتى اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، فقال عمر: لله أبوك! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها (نزهة الفضلاء، تهذيب سير أعلام النبلاء، 1/279)"، وقد وقع ما خشي منه عمر وابن عباس رضي الله عنهما فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن؛ لكنه لا يجاوز تراقيهم.
يمكنك تحميله من خلال الدخول الى صفحه التحميل من